فصل: ذكر حال وشمكير بعد قتل أخيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عود ياقوت إلى الأهواز:

ولّما وصل ياقوت إلى واسط أقام بها إلى أن قُتل مرداويج، ومعه أبو عبد الله البريديُّ يكتب له، فلمّا قُتل مرداويج عاد ياقوت إلى الأهواز، واستولى على تلك الولاية، ولّما وصل ياقوت إلى عسكر مُكْرَم، بعد قتل مرداويج، كانت عساكر ابن بويه قد سبقته، فالتقوا بنواحي أرّجان، وكان ابن بويه قد لحق بأصحابه، واشتدّ قتالهم بين يديه، فانهزم ياقوت، ولم يفلح بعدها.
وراسل أبو عبدالله البريديُّ ابنَ بُوَيه في الصلح، فأجاب إلى ذلك، وكتب به إلى الراضي، فأجاب إلى ذلك، وقرّر بلاد فارس على ابن بُوَيه، واستقرّ بشِيراز، واستقرّ ياقوت بالأهواز ومعه ابن البريديّ.
وكان محمّد بن ياقوت قد سَار إلى بغداد وتولّى الحجبة، وخلع الراضي عليه، وتولّى مع الحجبة رئاسة الجيش، وأدخل يده في أمر الدواوين، وتقدّم إليهم بأن لا يقبلوا توقيعاً بولاية ولا عزْل وإطلاق إلاّ إذا كان خطّه عليه، وأمرهم بحضور مجلسه، فصبر أبو عليّ بن مقلة على ذلك، وألزم نفسه بالمصير إلى دار ابن ياقوت، في بعض الأوقات، وبقي كالمتعطّل.
ولقد كان في هذه الأيّام القليلة حوادث عظيمة منها: انصراف وشمكير أخي مرداويج عن أصبهان بكتاب القاهر، بعد أن ملكها، واستعمال القاهر محمّد بن ياقوت عليها، وخلع القاهر، وخلافة الراضي، وأمر الحجبة لمحمّد ابن رائق، ثم انفساخه، ومسير محمّد بن ياقوت من رامَهُرْمُز إلى بغداد، وولايته الحجبة، بعد أن كان سائراً إلى أصبهان ليتولاّها، وإعادة مرداويج أخاه وشمكير إليها؛ وملك عليُّ بن بويه أرّجان؛ هذا جميعه في هذه اللحظة القريبة في سبعين يوماً، فتبارك الله الذي بيده الملك والملكوت يُصرِّف الأمور كيف يشاء، لا أله إلاّ هو.

.ذكر قتل هارون بن غريب:

في هذه السنة قُتل هارون بن غريب، وكان سبب قتله أنّه كان، كما ذكرنا، قد استعمله القاهر على ماه الكوفة، وقصبتها الدِّينَور، وعلى ماسَبذان وغيرها، فلمّا خُلع القاهر واستُخلف الراضي رأى هارون أنّه أحقّ بالدولة من غيره لقرابته من الراضي، حيث هو ابن خال المقتدر، فكاتب القوّاد ببغداد يعدهم الإحسان والزيادة في الأرزاق، ثمّ سار من الدِّينَور إلى خانِقين، فعظم ذلك على ابن مقلة وابن ياقوت والحجريّة والساجيّة، واجتمعوا، وشكوه إلى الراضي، فأعلمهم أنّه كاره له، وأذن لهم في منعه، فراسلوه أوّلاً، وبذلوا له طريق خراسان زيادة على ما في يده، فلم يقنع به، وتقدّم إلى النَّهروان، وشرع في جباة الأموال، وظلم الناس، وعسفهم، وقويت شوكته.
فخرج إليه محمّد بن ياقوت في سائر جيوش بغداد، ونزل قريباً منه، ووقعت الطلائع بعضها على بعض، وهرب بعض أصحاب محمّد بن ياقوت إلى هارون، وراسله محمّد يستميله، ويبذل له، فلم يجب إلى ذلك، وال: لا بدّ من دخول بغداد.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لست بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران، واشتدّ القتال، واستظهر أصحاب هارون لكثرتهم، فانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت ونُهب أكثر سوادهم، وكثر فيهم الجراح والقتل، فسار محمّد بن ياقوت حتّى قطع قنطرة نهر بين، فبلغ ذلك هارون، فسار نحو القنطرة منفرداً عن أصحابه، طمعاً في قتل محمّد بن ياقوت، أو أسره، فتقنطر به فرسه، فسقط عنه في ساقية، فلحقه غلام له اسمه يمن، فضربه بالطَّبرِزين حتّى أثخنه، وكسّر عظامه، ثم نزل إليه فذبحه ثم رفع رأسه وكبّر، فانهزم أصحابه وتفرّقوا، ودخل بعضهم بغداد سرّاً، ونهب سواد هارون، وقتل جماعة من قوّاده وأسر جماعة.
وسار محمّد إلى موضع جثّة هارون، فأمر بحملها إلى مضربه، وأمر بغسله وتكفينه، ثم صلّى عليه ودفنه، وأنفذ إلى داره من بحفظها من النهب، ودخل بغداد ورأس هارون بين يديه ورؤوس جماعة من قوّاده، فنُصب ببغداد.

.ذكر ظهور إنسان ادّعى النبوّة:

في هذه السنة ظهر بباسِند، من أعمال الصغانيان، رجل ادّعى النبوة، فقصده فوج بعدَ فوج، واتّبعه خلق كثير، وحارب من خالفه، فقتل خلقاً كثيراً مّمن كذّبه، فكثر أتباعه من أهل الشاش خصوصاً.
وكان صاحب حيل ومخاريق، وكان يدخل يده في حوض ملآن ماء، فيخرجها مملوءة دنانير، إلى غير ذلك من المخاريق، فكثر جمعه، فأنفذ إليه أبو عليّ بن محمّد بن المظفَّر جيشاً، فحاربوه، وضيّقوا عليه، وهو فوق جبل عالٍ، حتّى قبضوا عليه وقتلوه وحملوا رأسه إلى أبي عليّ، وقتلوا خلقاً كثيراً مّمن اتّبعه وآمن به؛ وكان يدّعي أنّه متى مات عاد إلى الدنيا، فبقي بتلك الناحية جماعة كثيرة على ما دعاهم إليه مدّة طويلة ثم اضمحلّوا وفنوا.

.ذكر قتل الشَّلمغانيّ وحكاية مذهبه:

وفي هذه السنة قُتل أبو جعفر محمّد بن عليّ الشَّلمغانيُّ المعروف بابن أبي القراقر، وشلْمَغانُ التي يُنسب إليها قرية بنواحي واسط.
وسبب ذلك أنّه قد أحدث مذهباً غالياً في التشيع، والتناسخ، وحلول الإلهيّة فيه، وإلى غير ذلك ممّا يحكيه، وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين ابن رَوْح، الذي تسمّيه الإمامية الباب، متداول وزارة حامد بن العبّاس، ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة حامد بن العبّاس، ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة أبيه الثالثة، ثم إنّه طُلب في زارة الخاقانيّ، فاستتر وهرب إلى الموصل، فبقي سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في حياة أبيه عبدالله بن حَمدان، ثم انحدر إلى بغداد واستتر، وظهر عنه ببغداد أنّه يدّعي لنفسه الربوبيّة، وقيل أنّه اتّبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبدالله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله، وأبو جعفر، وأبو عليّ ابنا بِسطام، وإبراهيم ابن محمّد بن أبي عون، وابن شبيب الزيّات، وأحمد بن محمّد بن عبدوس، كانوا يعتقدون ذلك فيه، وظهر ذلك عنهم، وطُلبوا أيّام وزارة ابن مقلة للمقتدر بالله، لم يوجدوا.
فلمّا كان في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر الشلمغانيُّ، فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه، وكبس داره فوجد فيها رقاعاً وكتباً مّمن يدّعي عليه أنّه على مذهبه، يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضاً، وفيها خطّ الحسين بن القاسم، فعُرضت الخطوط فعرفها الناس، وعُرضت على الشلمغانيّ فأقرّ أنّها خطوطهم، وأنكر مذهبه، وأظهر الإسلام، وتبرّأ ممّا يقال فيه، وأُخذ ابن أبي عون، وابن عبدوس معه، وأُحضروا معه عند الخليفة، وأُمرا بصفعه فامتنعا، فلمّا أُكرها مدّ ابن عبدوس يده وصفعه، وأمّا ابن أبي عون فأنّه مدّ يده إلى لحيته ورأسه، فارتعدت يده، فقبّل لحية الشلمغانيّ ورأسه، ثم قال: ألهي، وسيدي، ورازقي؛ فقال له الراضي: قد زعمتَ أنّك لا تدّعي الإلهيّة، فما هذا؟ فقال: وما عليّ من قول ابن أبي عون والله يعلم أنّني ما قُلتُ له أنّني إله قط! فقال ابن عبدوس: إنّه لم يدّع الإلهيّة وإنّما ادّعى أنّه الباب إلى الإمام المنتظر، مكان ابن رَوْح، وكنتُ أظنّ أنّه يقول ذلك تقيّةٍ، ثم أُحضروا عدّة مرّات، ومعهم الفقهاء، والقضاة، والكتّاب، والقوّاد، وفي آخر الأيّام أفتى الفقهاء بإباحة دمه، فصُلب ابن الشلمغانيّ، وابن أبي عون، في ذي القعدة فأُحرقا بالنار.
وكان من مذهبه أنّه إله الآلهة يحقّ الحقّ، وأنّه الأوّل القديم، الظاهر، الباطن، الرازق، التامّ، المومأ إليه بكلّ معنى؛ وكان يقول: إنّ الله، سبحانه وتعالى، يحلّ في كلّ شيء على قدر ما يحتمل، وإنّه خلق الضدّ ليدلّ على لمضدود، فمن ذلك أنّه حلّ في آدم لّما خلقه، وفي إبليسه أيضاً، وكلاهما ضدّ لصاحبه لمضادته إيّاه في معناه، وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحقّ، وإنّ الضدّ أقرب إلى الشيء من شبهه، وإنّ الله عز وجلّ، إذا حلّ في جسد ناسوتيّ ظهر من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو، وإنّه لّما غاب آدم ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتيّة، كلّما غاب منهم واحد ظهر مكانه آخر، وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتيّة في إدريس وإبليسه، وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم، واجتمعت في نوح، عليه السّلام، وإبليسه، وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم، واجتمعت في نوح، عليه السّلام، وإبليسه، وتفرّقت عند غيبتهما، واجتمعت في هود وإبليسه، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في صالح، عليه السّلام، وإبليسه عاقر الناقة، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم، عليه السّلام، وإبليسه نمرود، وتفرّقت لّما غاب واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في سليمان وإبليسه، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في عيسى وإبليسه، فلمّا غابا تفرّقت في تلاميذ عيسى وأبالستهم، ثم اجتمعت في عليّ ابن أبي طالب وإبليسه.
ثمّ أنّ الله يظهر في كلّ شيء، وكلّ معنى، وإنّه في كلّ أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصوّر له ما يغيب عنه، حتّى كأنّه يشاهده؛ وإن الله اسم لمعنى وأنّ من احتاج الناس إليه فهو إلهٌ، ولهذا المعنى يستوجب كلّ أحد أن يسمّى إلهاً، وإنّ كّل أحد من أشياعه يقول: إنّه ربّ لمن هو في دون درجته، وإنّ الرجل منهم يقول: أنا ربّ لفلان، وفلان ربّ لفلان، وفلان ربّ ربّي، حتّى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر فيقول: أنا ربّ الأرباب، لا ربوبيّة بعده.
ولا ينسبون الحسن والحسين، رضي الله عنهما، إلى عليّ، كرّم الله وجهه، لأنّ من اجتمعت له الربوبيّة لا يكون له ولد، ولا والد، وكانوا يسمّون موسى ومحمّداً، صلى الله عليه وسلم، الخائنين، لأنّهمِ يدّعون أنّ هارون أرسل موسى، وعليّاً أرسل محمّداً، فخاناهما، ويزعمون أنّ عليّاَ أمهل محمّداَ عدّة سني أصحاب الكهف، فإذا انقضت هذه العدّة، وهي ثلاثمائة وخمسون سنة، انتقلت الشريعة؛ ويقولون أنّ الملائكة كلّ من ملك نفسه، وعرف الحقّ، وإنّ الجنّة معرفتهم وانتحال مذهبهم، والنار الجهل بهم، والعدول عن مذهبهم.
ويعتقدون ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولا يتناكحون بعقد، ويبيحون الفروج، ويقولون إنّ محمّداً، صلى الله عليه وسلم، بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب، ونفوسهم أبيّة، فأمرهم بالسجود، وإنّ الحكمة الآن أن يمتحن الناس بأباحة فروج نسائهم، وإنّه يجوز أن يجامع الإنسان من شاء من ذوي رحمه، وحرم صديقه، وابنه، بعد أن يكون على مذهبه، وإنّه لا بدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه، ومن امتنع من ذلك قُلب في الدور الذي يأتي بعد هذا العالم امرأةً، إذ كان مذهبهم التناسخ، وكانوا يعتقدون أهلاك الطالبيّين والعبّاسيّين، تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً.
وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيريّة، ولعلّها هي هي، فإن النصيرية يعتقدون في ابن الفرات،! ويجعلونه رأساً في مذهبهم.
وكان الحسين بن القاسم بالرَّقّة، فأرسل الراضي بالله إليه، فقُتل آخر ذي القعدة، وحُمل رأسه إلى بغداد.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة أرسل محمّد بن ياقوت حاجب الخليفة رسولاً إلى أبي طاهر القُرمُطيّ يدعوه إلى طاعة الخلفة، ليقرّه على ما بيده من البلاد، ويقلّده بعد ذلك ما شاء من البلدان، ويحسن إليه، ويلتمس منه أن يكفّ عن الحاجّ جميعهم، وأن يردّ الحجر الأسود إلى موضعه بمكّة، فأجاب أبو طاهر إلى أنّه لا يتعرّض للحاجّ، ولا يصيبهم بمكروه، ولم يجْب إلى ردّ الحجر الأسود إلى مكّة، وسأل أن يطلق له الميرة من البصرة ليخطب للخليفة في أعمال هجَر، فسار الحاجّ إلى مكّة وعاد ولم يتعرّض لهم القرامطة.
وفيها، في ذي القعدة، عزم محمّد بن ياقوت على المسير إلى الأهواز لمحاربة عسكر مرداويج، فتقدّم إلى الجند الحجريّة والساجيّة بالتجهّز للمسير معه، وبذل مالاً يتجهّزون به، فامتنعوا وتجمّعوا وقصدوا دار محمّد بن ياقوت، فأغلظ لهم في الخطاب، فسبّوا، ورموا داره بالحجارة، ولّما كان الغد قصدوا داره أيضاً، وأغلظوا له في الخطاب، وقاتلوا من بادره من أصحابه، فرماهم أصحابه وغلمانه بالنشاب، فانصرفوا وبطلت الحركة إلى الأهواز.
وفيها سار جماعة من أصحاب أبي طاهر القرمطي إلى نواحي تَوّج في مراكب وخرجوا منها إلى تلك الأعمال، فلمّا بعدوا عن المراكب أرسل الوالي في البلاد إلى المراكب وأحرقها، وجمع الناس وحارب القرامطة، فقتل بعضاً، وأسر بعضاً، فيهم ابن الغمر، وهو من أكابر دُعاتهم، وسيّرهم إلى بغداد أيّام القاهر، فدخلوها مشهورين، وسُجنوا، وكان من أمرهم ما ذكرناه في خلع القاهر.
وفيها قتل القاهرُ بالله إسحاق بن إسماعيل النوبختيَّ، وهو الذي أشار باستخلافه، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وقتل أيضاً أبا السرايا بن حَمدان، وهو أصغر ولد أبيه؛ وسبب قتلهما أنّه أراد أن يشتري مغنّيتَيْن قبل أن يلي الخلافة، فزادا عليه في ثمنهما، فحقد ذلك عليهما، فلمّا أراد قتلهما استدعاهما للمنادمة، فتزيّنا، وتطيّبا، وحضرا عنده فأمر بإلقائهما إلى بئر في الدار، وهو حاضر، فتضرّعا وبكيا، فلم يلتفت إليهما وألقاهما فيها وطمّها عليهما.
وفيها أُحضر أبو بكر بن مُقسم ببغداد في دار سلامة الحاجب، وقيل له إنّه قد ابتدع قِراءة لم تُعرف، وأُحضر ابن مجاهد والقضاة والقراء وناظروه، فاعترف بالخطإ وتاب منه، واحترقت كتبه.
وفيها سار الدّمُسْتُق قَرَقَاش في خمسين ألفاً من الروم، فنازل مَلَطْية وحصرها مدّة طويلة، وهلك أكثر أهلها بالجوع، وضرب خيمتَيْن على إحداهما صليب، وقال: من أراد النصرانيّة انحاز إلى خيمة الصليب ليردّ عليه أهله وماله، ومن أراد الإسلام انحاز إلى الخيمة الأخرى، وله الأمان على نفسه ونبلغه مأمنه؛ فانحاز أكثر المسلمين إلى الخيمة التي عليها الصليب، طمعاً في أهليهم وأموالهم، وسيّر مع الباقين بطريقاً يبلغهم مأمنهم، وفتحها بالأمان، مستهلّ جمادى الآخرة، يوم الأحد، وملكوا سُمَيساط، وخرّبوا الأعمال، وأكثروا القتل، وفعلوا الأفاعيل الشنيعة، وصار أكثر البلاد في أيديهم.
وفيها توفّي عبد الملك بن محمّد بن عديّ أبو نُعيم الفقيه الجرجانيُّ الاستراباذيُّ، وأبو عليّ الروذباريُّ الصوفيُّ، واسمه محمّد بن أحمد بن القاسم، وقيل توفّي سنة ثلاث وعشرين.
وفيها توفّي خير بن عبدالله النسّاج الصوفيُّ من أهل سامرّا، وكان من الأبدال، ومحمّد بن عليّ بن جعفر أبو بكر الكنانيُّ الصوفيُّ المشهور، وهو من أصحاب الجُنيد، وأبي سعيد الخرّاز الخرّاز بالخاء المعجمة والراء والزاي. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة:

.ذكر قتل مرداويج:

في هذه السنة قُتل مرداويج الديلميُّ صاحبُ بلاد الجبل وغيرها.
وكان سبب قتله أنّه كان كثير الإساءة للأتراك، وكان يقول أنّ رُوح سليمان بن داود، عليه السلام، حلّت فيه، وإنّ الأتراك هم الشياطين والمردة، فإن قهرهم، وإلاّ أفسدوا؛ فثقلت وطأته عليهم وتمنّوا هلاكه.
فلمّا كان ليلة الميلاد من هذه السنة، وهي ليلة الوَقود، أمر بأن يُجمع الحطب من الجبال والنواحي، وأن يُجعل على جانَبي الوادي المعروف بزندروذ كالمنابر والقباب العظيمة، ويُعمل مثل ذلك على الجبل المعروف بكريم كوه المشرف على أصبهان، من أسفله إلى أعلاه، بحيث إذا اشتعلت تلك الأحطاب يصير الجبل كلّه ناراً، وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التي هناك، وأمر فجُمع له النِّفط ومن يلعب به، وعمل من الشموع ما لا يحصى، وصِيدَ له من الغِربان والحدإ زيادة على ألفَيْ طائر ليجعل في أرجلها النِّفط وترسل لتطير بالنار في الهواء، وأمر بعمل سماط عظيم كان من جملة ما فيه: مائة فرس، ومئتان من البقر مشوية، صحاحاً، سوى ما شُوي من الغنم فإنّها كانت ثلاثة آلاف رأس، سوى المطبوخ، وكان فيه من الدجاج وغيره من أنواع الطير زيادة على عشرة آلاف عدد، وعمل من ألوان الحَلواء ما لا يُحدّ، وعزم على أن يجمع الناس على ذلك السماط، فإذا فرغوا قام إلى مجلس الشراب ويشعل النيران فيتفرّج.
فلمّا كان آخر النهار ركب وحده، وغلمانه رجّالة، وطاف بالسماط ونظر إليه وإلى تلك الأحطاب، فاستحقر الجميع لسعة الصحراء، فتضجّر وغضب، ولعن من صنعه ودبّره، فخافه من حضر، فعاد ونزل ودخل خركاة له فنام، فلم يجسر أحد أن يكلّمه.
واجتمع الأمراء والقوّاد وغيرهم، وأرجفوا عليه، فمن قائل أنّه غضب لكثرته لأنّه كان بخيلاً، ومن قائل أنّه قد اعتراه جنون؛ وقيل بل أوجعه فؤاده؛ وقيل غير ذلك، وكادت الفتنة تثور.
وعرف العميد وزره صورة الحال فأتاه ولم يزل حتّى استيقظ وعرّفه ما الناس فيه، فخرج وجلس على الطعام، وأكل ثلاث لقم ثم قام ونهب الناس الباقي، ولم يجلس للشراب، وعاد إلى مكانه، وبقي في معسكره بظاهر أصبهان ثلاثة أيّام لا يظهر.
فلمّا كان اليوم الرابع تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من منزلته إلى داره بأصبهان، فاجتمع ببابه خلق كثير، وبقيت الدوابّ مع الغلمان، وكثر صهيلها ولعبها، والغلمان يصيحون بها لتسكن من الشغب، وكانت مزدحمة فارتفع من الجميع أصوات هائلة.
وكان مرداويج نائماً، فاستيقظ، فصعد فنظر فرأى ذلك، فسأل فعرف الحال، فازداد غضباً، وقال: أما كفى من خرق الحرمة ما فعلوه في ذلك الطعام، وما أرجعوا به، حتّى انتهى أمري إلى هؤلاء الكلاب؟ ثم سأل عن أصحاب الدوابّ، فقيل: أنّها للغمان الأتراك، وقد نزلوا إلى خدمتك، فأمر أن تُحطّ السروج عن الدوابّ وتجعل على ظهور أصحابها الأتراك، ويأخذوا بأرسان الدوابّ إلى الإسطبلات، ومن امتنع من ذلك ضربه الدَّيلم بالمقارع حتّى يطيع، ففعلوا ذلك بهم وكانت صورة قبيحة يأنف منها أحقر الناس.
ثم ركب هو بنفسه مع خاصّته، وهو يتوعّد الأتراك، حتّى صار إلى داره قرب العِشاء، وكان قد ضرب قبل ذلك جماعة من أكابر الغلمان الأتراك، فحقدوا عليه، وأرادوا قتله، فلم يجدوا أعواناً، فلمّا جرت هذه الحادثة انتهزوا الفرصة، وقال بعضهم: ما وجه صبرنا على هذا الشيطان؟ فاتّفقوا، وتحالفوا على الفتك به، فدخل الحمّام، وكان كورتكين، يحرسه في خلواته وحمّامه، فأمره ذلك اليوم أن لا يتبعه، فتأخرّ عنه مغضباً، وكان هو الذي يجمع الحرس، فلشدة غضبه لم يأمر أحداً أن يحضر حراسته؛ وإذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه.
وكان له أيضاً خادم أسود يتولى خدمته بالحمّام، فاستمالوه، فمال إليهم، فقالوا للخادم ألاّ يحمل معه سلاحاً، وكانت العادة أن يحمل معه خنجراً طوله نحو ذراع ملفوفاً في منديل، فلمّا قالوا ذلك للخادم قال: ما أجسر؛ فاتّفقوا على أن كسروا حديد الخنجر وتركوا النصاب في الغلاف بغير حديد، فلفّوه في المنديل كما جرت العادة لئلاَّ ينكر الحال.
فلمّا دخل مرداويج الحمّام فعل الخادم ما قيل له، وجاء خادم آخر، وهو أستاذ داره، فجلس على باب الحمّام، فهجم الأتراك إلى الحمّام، فقام أستاذ داره ليمنعهم، وصاح بهم، فضربه بعضهم بالسيف فقطع يده، فصاح بالأسود وسقط، وسمع مرداويج الضجة، فبادر إلى الخنجر ليدفع به عن نفسه، فوجده مكسوراً، فأخذ سريراً من خشب كان يجلس عليه إذا اغتسل، فترّس به باب الحمّام من داخل، ودفع الأتراك الباب، فلم يقدروا على فتحه، فصعد بعضهم إلى السطح، وكسروا الجامات، ورموه بالنشاب، فدخل البيت الحارّ، وجعل يتلطّفهم، ويحلف لهم على الإحسان، فلم يلتفتوا إليه، وكسروا باب الحمّام ودخلوا عليه فقتلوه.
وكان الذين ألّبوا الناس عليه وشرعوا في قتله توزون، وهو الذي صار أمير العساكر ببغداد وياروق، وابن بغرا، ومحمّد بن ينال الترجمان، ووافقهم بجكم، وهو الذي وليَ أمر العراق قبل توزون، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. فلمّا قتلوه بادروا فأعلموا أصحابهم، فركبوا ونهبوا قصره وهربوا، ولم يعلم بهم الديلم لأنّ أكثرهم كانوا قد دخلوا المدينة ليلحق بهم وتخلف الأتراك معه لهذا السبب.
فلمّا علم الديلم والجيل ركبوا في أثرهم، فلم يلحقوا منهم إلاّ نفراً يسيراً وقفت دوابّهم، فقتلوهم، وعادوا لينهبوا الخزائن، فرأوا العميد قد ألقى النار فيها، فلم يصلوا إليها، فبقيت بحالها.
ومن عجيب ما يحكى أنّ العساكر في ذلك اليوم لّما رأوا غض مرداويج قعدوا يتذاكرون ما هم فيه معه من الجور، وشدّة عتوّه، وتمرّده عليهم، ودخل بينهم رجل شيخ لا يعرفه منهم أحد، وهو راكب، فقال: قد زاد أمر هذا الكافر، واليوم تكفنونه ويأخذه الله؛ ثمّ سار، فلحقت الجماعة دهشة، ونظر بعضهم في وجوه بعض، ومرّ الشيخ، فقالوا: المصلحة أنّنا نتبعه ونأخذه ونستعيده الحديث، لئلاّ يسمع مرداويج ما جرى، فلا نلقى منه خيراً؛ فتبعوه فلم يروا أحداً.
وكان مرداويج قد تجبّر قبل أن يُقتل وعتا، وعمل له كرسيّاً من ذهب يجلس عليه، وعمل كراسي من فضّة يجلس عليها أكابر قوّاده، وكان قد عمل تاجاً مرصّعاً على صفة تاج كسرى، وقد عزم على قصد العراق والاستيلاء عليه، وبناء المدائن ودور كسرى ومساكنه، وأن يخاطَب، إذا فُعل ذلك، بشاهنشاه، فأتاه أمرُ الله وهو غافل عنه، واستراح الناس من شرّه، ونسأل الله تعالى أن يريحَ الناس من كلّ ظالم سريعاً.
ولّما قُتل مرداويج اجتمع أصحابه الديلم والجيل وتشاوروا، وقالوا: إن بقينا بغير رأس هلكنا؛ فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير بن زيار، وهو والد قابوس، وكان بالرَّيّ، فحملوا تابوت مرداويج، وساروا نحو الريّ، فخرج من بها من أصحابه مع أخيه وشمكير، فالتقوه على أربعة فراسخ مشاة، حفاة، وكان يوماً مشهوداً.
وأمّا أصحابه الذين كانوا بالأهواز وأعمالها فإنّهم لّما بلغهم الخبر كتموه، وساروا نحو الريّ، فأطاعوا وشمكير أيضاً، واجتمعوا عليه.
ولذما قُتل مرداويج كان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده، كما ذكرناه، فبذل للموكّلين مالاً فأطلقوه، فخرج إلى الصحراء ليفكّ قيوده، فأقبلت بغال عليها تبن، وعليها أصحابه وغلمانه، فأُلقي التبن، وكسر أصحابه قيودَه، وركبوا الدوابّ، ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس.

.ذكر ما فعله الأتراك بعد قتله:

لّما قتل الأتراك مرداويج هربوا وافترقوا فرقَتيْن، ففرقة سارت إلى عِماد لدولة بن بُوَيه مع خَجخج الذي سلمه تُوزون فيما بعد، وسنذكره.
وفرقة سارت نحو الجبل مع بَجكم، وهي أكثرها، فجبَوا خراج الدّيَنور وغيرِها، وساروا إلى النَّهروان، فكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد، فأذن لهم، فدخلوا بغداد، فظنّ الحجريّة أنّها حيلة عليهم، فطلبوا ردّ الأتراك إلى بلد الجبل، فأمرهم ابن مُقلة بذلك، وأطلق لهم مالاً، فلم يرضوا به، وغضبوا، فكاتبهم ابن رائق، وهو بواسط، وله البصرة أيضاً، فاستدعاهم، فمضوا إليه، وقدّم عليهم بجكم، وأمره بمكاتبة الأتراك والديلم من أصحاب مرداويج، فكاتبهم، فأتاه منهم عدّة وافرة، فأحسن إليهم، وخلع عليهم، وإلى بجكم خاصّة، وأمره أن يكتب إلى الناس بجكم الرائقيّ، فأقام عنده، وكان من أمرهما ما نذكره.

.ذكر حال وشمكير بعد قتل أخيه:

وأمّا وشمكير فإنّه لَما قُتل أخوه، وقصدته العساكر التي كانت لأخيه، وأطاعته، أقام بالريّ، فكتب الأمير نصر بن أحمد السامانيُّ إلى أمير جيشه بخُراسان، محمّد بن المظفَّر بن محتاج، بالمسير إلى قُومِس، وكتب إلى ما كان ابن كالي، وهو بكَرمان، بالمسير عنها إلى محمّد بن المظفَّر، ليقصدوا جُرجان والرَّيّ.
فسار ما كان إلى الدامغان على المفازة، فتوجّه إليه بانجين الديلميُّ، من أصحاب وشمكير، في جيش كثيف، واستمدّ ما كان محمّدَ بن المظفّر، وهو ببِسطام، فأمدّه بجمع كثير أمرهم بترك المحاربة إلى أن يصل إليهم، فخالفوه وحاربوا بانجين، فلم يتعاونوا، وتخاذلوا فهزمهم بانجين، فرجعوا إلى محمّد بن المظفّر، وخرجوا إلى جُرجان، فسار إليهم بانجين ليصدّهم عنها، فانصرفوا إلى نَيسابور وأقاموا بها وجُعلت ولايتها لما كان ابن كالي وأقام بها، وكان ذلك آخر سنة ثلاث وعشرين وأوّل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ولّما سار ما كان عن كَرمان عاد إليها أبو عليّ محمّد بن إلياس فاستولى عليها، وصفت له بعد حروب له مع جنود نصر بكَرمان، وكان الظفر له أخيراً، وسنذكر باقي خبرهم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.